أسئلة العدالة الانتقالية في مصر ورومانسيتها (2- 2) الوقت لمُقاربة مختلفة لدمج الفلول وتجاوز الماضي
الحديث الذي قدمته في الجزء الأول من هذا المقال عن الموجات المتقلبة من التضارب والتقارب بين أجندات الإخوان الخاصة، ومصالح العسكر، كشركاء في الحكم، ومؤسسي المسار السياسي الذي تتخبط في غياهبه مصر الآن، كان في مجمله مكرراً، لكن ما أظن أن الناس تعزف عن مناقشته هي مسألة الفلول ومقاربة شجاعة لنزع فتيلها، إذ حان الوقت في رأيي لإعادة النظر جذرياً في مسألة الفلول وفي مصالحة وطنية أشمل وأوسع تبنى على أسس شفافة وعادلة، لتنتهي تلك المسألة تماماً وتتوقف معارك تصفية الحسابات التي تدور وراء الظهور باسم الثورة.
من الطبيعي في حماسة البدايات الثورية أن يكون الجميع متأهبين لمحاسبة اللصوص ومعاقبة القتلة، وراغبين في السعي وراء تقصي جرائم حقبة بأكملها تضم عشرات السنين لإحقاق القصاص الشامل. لكن تمنعنا حماسة البدايات دائماً من النظر إلى استحالة تلك المسألة، والإقرار بمدى رومانسيتها الشديدة غير القابلة للتطبيق، بل والأخطار المحدقة لتلك المقاربة الرومانسية على الثورة ذاتها، وأهدافها.
(1)
إذ حينما يشعر المئات من رجال السياسة ورجال المال والأعمال وقادة الأجهزة الأمنية عبر عقود (وكل هؤلاء متشابكون في دوائر مصالح) أنهم جميعاً ملاحقون ومهددون، تستحكم رغبتهم في إفساد الحياة العامة وعرقلة التغيير، حتى لا تطالهم المُساءلة، وهم يستطيعون ذلك إلى حدٍ ما بما تمتلكه دوائرهم من مميزات لن تستطيع أعتى الموجات الثورية عُلواً أن تفككها وتقضي عليها إلا عبر عمل شاق عبر أجيال عدة.
وما يحدث غالباً هو أن الثورة تستطيع أن تعصف بنظام الحكم، عبر استهداف قِلة من الرؤوس الكبيرة التي كانت بادية في المشهد، كما أنها قد تلاحق – بعد انتصار موجاتها الأولى - عشرات من صِغار ومتوسطي الفاسدين، لكنها لن تستطيع أبداً أن تطيح بكل الصفوف المتراصة للنظام وحوارييه والمنتفعين منه. والثورة المصرية مثال واضح على ذلك حين أطاحت بمبارك والعادلي لكن دوائر المصالح التي سارعت إلى تنظيم صفوفها بعد الموجة الأولى للثورة، نجحت في احتواء تلك المطالب الثورية الرومانسية، بل والسخرية منها مثلما فعل شفيق وعبد المجيد محمود وقيادات الداخلية والجيش جميعاً.
(2)
النظر في تجارب تحول أكثر نجاحاً كما حدث في ألمانيا الشرقية بعد انهيار جدار برلين، يمنحنا فكرة عما فعلناه بأنفسنا تحت مسمى محاربة الفلول، طوال شهور عجاف، وما فعله الألمان بعد ثورتهم. (ما أقدمه هنا في أسطر قليلة هو بطبيعة الحال رؤية شديدة الابتسار والانحياز لتجربة تحول لا يمكن زعم اختصارها في أسطر دون إخلال).
لقد قتل الجنود ألفاً من الألمان وهم يحاولون عبور جدار برلين من الشرق إلى الغرب أثناء أعوام تقسيم ألمانيا وحتى الثورة، لكن الألمان نجحوا في تحديد المسؤول سياساً عن مقتل هؤلاء وتعريتهم أمام الرأي العام، ومحاسبة قلة قليلة أمام القضاء، بدلاً من اللهاث المحموم غير المجدي وغير الناجح وراء معاقبة كل مسؤول متورط.
في مسألة القضاء والشرطة عمدت الدولة أيضاً بدلاً من المحاكمات الموسّعة إلى حل كامل أو شبه كامل أو إعادة هيكلة لأجهزة الشرطة والقضاء وفتح الباب لتلقي طلبات الانضمام، من الكوادر القديمة والجديدة، إلى سلك القضاء والشرطة بناء على معايير تشمل النزاهة وعدم التورط في أوحال النظام السابق.
حتى تلك القضايا القليلة التي نظرتها المحاكم في قتل أو تعذيب الألمان على يد أمن الدولة Stasi والشرطة، وجدت المحكمة أن بعض هؤلاء مذنبين، لكنها لم تحكم عليهم بالعقاب نظراً لحيثيات تتعلق مثلاً بأنهم كانوا يتلقون أوامر من جهات أعلى لا يقوون على عصيانها، في حين أن قلة قليلة عوقبت بالسجن.
وحتى تلك الملفات التي جمعها أمن الدولة في ألمانيا الشرقية، تم وضعها في متناول المواطنين الألمان والمجتمع المدني والصحافة وفقاً لقواعد معينة، بعد نقاشات عميقة مطولة لمدة عامين، حتى يعلم المواطنون كيف كانت الدولة تتجسس على حياتهم الخاصة، مع الاكتفاء بطرد وتطهير الجهاز الأمني من هؤلاء الجواسيس.
لاتزال النقاشات تدور بعد ثلاثين عاماً في ألمانيا حول مسائل تتعلق بالتحول السياسي والاجتماعي، والدستور، وأحقية فلول النظام الشيوعي في ممارسة الحياة السياسية.. الخ، بل وحول طبيعة الثورة نفسها وانهيار جدار برلين، وهل كانت ثورة حقيقية أم مجرد انتفاضة.. إنها نفس الأسئلة تماماً التي تنطلق في كل اتجاه، لتساءل كل شيء وأي شي، في أي تجربة ثورية. واستمرار تلك الأسئلة بعد 30 عاماً يقول إنه لا توجد إجابات مطلقة، ولا أنموذج مثالي، ولكن توجد محاولات جادة لإيجاد صيغة يمكن من خلالها الاستفادة من دروس الماضي دون أن تظل الشعوب أسرى لصراعاته وأجياله العقيمة التي أدت لتفجر الموقف.
(3)
لا يمكن بحال مقارنة تجربتي مصر وألمانيا الشرقية دون الأخذ بالاعتبار بعض اختلافات جوهرية، منها مثلاً أنه في ألمانيا لم تقتل الشرطة أو الجيش إنساناً واحداً أثناء عبور وهدم جدار برلين، (كان لموقف موسكو المُحايد بدرجة ما، دور في كبح جماح دولة ألمانيا البوليسية). بينما في مصر ثمة مئات الشهداء وآلاف الجرحى أثناء الثورة ذاتها، وفي المرحلة الانتقالية السوداء. وهي نقاط مؤلمة تزيد من تعقيد المسألة وتستتبع التفكير والبحث عن حلول خلاقة غير مهجوسة بالقصاص الشامل بقدر بحثها عن تعزيز فرص المستقبل الأفضل.
أضف لذلك أن ثمة مساحة شائكة من الأسئلة بين ما يمكن اعتباره محاولة لتجاوز الماضي والاستفادة منه، وتلك الحالات التي يصر ضحايها أو أصحابها على ملاحقة جلاديهم أمام القضاء. ناهيك عن محاسبة من عُرف عنهم فسادهم وسرقتهم لأموال أجيال من الشعب.
لكن كل تلك الاعتبارات لا تمنع مقاربة مختلفة جذرياً للعدالة الانتقالية عما يحدث في الشهور الماضية في مصر، فلا القوّة انتصرت، ولا العدلُ الشريد كما قال درويش.
الهدف إذن من العدالة الانتقالية هدف مثالي، جميلٌ وحالمٌ ومشروع فلسفياً وأخلاقياً، لكن تجارب الشعوب أثبتت عدم واقعيته عملياً، (بل ويُمكن ضحده فلسفياً)، وكانت تجارب النجاح غالبا هي تلك القادرة على إعادة صياغة الهدف ليصبح القضاء على فرص النظام القديم في العودة للحكم خلال الشهور الأولى حتى تستقر الأوضاع، ثم العمل على تثبيت دعائم وأركان النظام الجديد المبني على قواعد المحاسبية والديموقراطية وتقوية المجتمع المدني وتعزيز الحريات الإعلامية. وفي هذه الحالة لن يضير البلاد الجديدة أن يكون لأحد رموز الفلول حزباً سياسياً أو أن يعفو ويصفحو عن الماضي بدلاً من الضلال أربعين خريفاً ثم الوصول إلى اللاشيء.
لقد شهدت الثورة نفسها أحداث تصب في ذات الفلسفة، حين حمى المتظاهرون وكفوا الأذى عن جنود وضباط الداخلية في نهاية جمعة الغضب 28 يناير 2011، بعد أن انتصرت الجماهير الحاشدة، في حين اشتدت المعارك في المناطق المحيطة بأقسام الشرطة التي قرر ضباطها التصرف بدموية.
(4)
تستهدف أيضاً المقاربة المنشودة للعدالة الانتقالية أسئلة الفقر وتوزيع الدخل، بحيث يمكن في محادثات الانتقال التوصل إلى مصالحة وطنية تشمل عفواً غير انتقائي عن أعضاء دوائر المصالح المتورطين في الفساد مقابل سداد الأموال المنهوبة لخزينة الدولة، عبر آليات محددة وواضحة.
في هذا الجانب الاقتصادي أيضاً، يمكن رؤية مدى تخبط ومحدودية المقاربة الفاشلة في مصر، إذ تتم ملاحقة رجال أعمال بعينهم لمجرد دعمهم للمعارضة، بينما يتم تقريب رجال أعمال آخرين لا يختلفون كثيراً عن الأولين في فسادهم أو تورطهم في أوحال النظام السابق. ويمكنني تخيل أن ذلك كان سيحدث أيضاً لو وصل للحكم أي فريق آخر سوى الإخوان.
لو اتخذت الثورات أهداف المستقبل كأولوليات للعدالة الانتقالية، لن يضطر الفلول للتجمّل والقفز على الثورة، سيظل الفلول فلولاً وسيضطرون لتقديم خطابهم السياسي المبني على التنافس الحزبي وكسب الناخبين عبر البرامج وليس الشعارات، لن تضطر الجيوش للإمساك بتلابيب الحكم والحفاظ على دولتها العسكرية داخل الدولة المدنية. لن يضطر السيسي للكذب ولن يتوافر للإخوان غطاء لتنفيذ أجندتهم في الهيمنة على مفاصل الدولة تحت مسمى محاربة الفلول.
الحيرة الأبدية بين ما ننشده في أحلامنا وما يربطنا بالواقع المعقد المتشابك، ستظل هناك دائماً.. لكن الإرادة للإقرار بتلك الحيرة ومواجهتها بإصرار لم تتوافر أبداً لدى من تصدوا للحكم بعد الثورة.
****
لماذا كل هذا القلق والحيرة الآن؟
(ترتسم علامات الجّدِ على وجوه الناس)
لماذا تخلو الشوارع وتقفر الميادين على عجلٍ؟
لماذا يعود الجميع إلى بيوتهم..
وقد استبد بهم الفِكر؟
لأن الليل قد أرخى سدوله..
ولم يأتِ البرابرة.
وقال بعضُ من عادوا للتوّ مستشرفين الحدود:
لم يعد هناك مِنْ برابرة.
***
والآن؟ مالذي سيحدث لنا من دونِ البرابرة؟
لقد كانوا، أولئك البرابرة، حلاً من الحلول.
-------------
من قصيدة: (في انتظار البرابرة لقسطنطين كفافي) – شاعر يوناني إسكندراني في وصفه لمعايير المواطنة المزدوجة وعبث القوانين.